St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

603- لماذا لم يتقبل رب البيت اعتذارات المدعوين للعشاء العظيم (لو 14: 18-21)؟ ومن هم الجُّدْع (لو 14: 21)؟ ولماذا اختلفت الوليمة في إنجيل لوقا (لو 14: 16-24) عنها في إنجيل متى (مت 22: 2-14)؟ وكيف يُلزم رب البيت السائرين في الطريق والسياجات لحضور الحفل (لو 14: 23)؟ وهل يحض السيد المسيح على بغضة الوالدين والزوجة والأولاد والإخوة والأخوات (لو 14: 26)، أم أنه يحض على محبة الجميع حتى الأعداء (مت 5: 44)؟

 

س603: لماذا لم يتقبل رب البيت اعتذارات المدعوين للعشاء العظيم (لو 14: 18-21)؟ ومن هم الجدع (لو 14: 21)؟ ولماذا اختلفت الوليمة في إنجيل لوقا (لو 14: 16-24) عنها في إنجيل متى (مت 22: 2-14)؟ وكيف يُلزم رب البيت السائرين في الطريق والسياجات لحضور الحفل (لو 14: 23)؟ وهل يحض السيد المسيح على بغضة الوالدين والزوجة والأولاد والإخوة والأخوات (لو 14: 26)، أم أنه يحض على محبة الجميع حتى الأعداء (مت 5: 44)؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: 1- لماذا لم يتقبل رب البيت اعتذارات المدعوين للعشاء العظيم (لو 14: 18-21)..؟ دعنا يا صديقي أن نبدأ الحديث بتسجيل ملاحظتين: الأولى: أن أحد المتكئين في الوليمة تفاعل مع تعاليم السيد المسيح وحديثه عن ضرورة دعوة الجدع والعرج والعمي في الوليمة، ولم يتمالك نفسه فصاح قائلًا: "طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ الله" (لو 14: 15) ولا بد أن الذي نطق بهذه العبارة هو فريسي لأنه يؤمن بالقيامة العامة وحياة الدهر الآتي، بينما أنكر الصدقيون القيامة العامة، وأيضًا تحمل العبارة اعتقاد الفريسيين بأن المسيا سيأتي ويملك على الأرض، وفي هذا الملكوت سيُقيم المسيا وليمة عظيمة يُقدم فيها ما أسموه بخبز الملكوت، مع أنواع فاخرة من الطعام من لحوم الحيوانات والطيور والأسماك، مع فاكهة من أثمار الفردوس، وخمرًا معتقة منذ بدء الخليقة. أما الملاحظة الثانية: إن شراء حقول أو بقر لا يعد شرًا ولا خطية، وهكذا الزواج أيضًا، ولكن الخطية هيَ في الانهماك والانشغال بأمور غير صحيحة مما يعطلنا ويعوقنا في رحلتنا للملكوت السمائي، وهكذا كان الذين عاشوا في زمن نوح يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون وهذه جميعها أمور حسنة، ولكن إذ تركوا هذه الأمور الحسنة تسيطر عليهم وتعوقهم في طريقهم للملكوت فقدوا حياتهم الأبدية وهلكوا جميعًا، بل أن الإنسان قد يتعرّض للهلاك وهو يعمل في بيت الرب، عندما يهتم بخدمة بيت الرب أكثر من اهتمامه برب البيت.

وقد رفض رب البيت اعتذارات المدعين، لأنها اعتذارات واهية وغير منطقية:

أ– اعتذر الأول قائلًا: "إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلًا وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي" (لو 14: 18) فكيف اشترى الحقل دون أن يعاينه المعاينة النافية للجهالة، فلا بد أنه عاين الحقل وعرف موقعه، ومساحته، ونوعية أرضه، ووسائل الري، والجيران المُحيطين به... إلخ. وإن كان فعل هكذا واشترى الحقل وله اشتياقات أن يذهب إليه ليملئ نظره منه، فقد كان من الممكن تأجيل هذه الخطوة، فالحقل باقٍ في مكانه، لن يصنع له أرجل ويرحل من مكانه، وتأجيل الرؤية للغد لن تضيره في شيء، ولكن الأمر المخلفي أنه لم يهتم باحترام رغبة صاحب الدعة ولم يوفه حق قدره من الاحترام، فرفض الدعوة هو استهانة بصاحب العشاء العظيم واحتقار له، هذا ينم عن الجهل بهويته، وأنه هو ملك الملوك ورب الأرباب... تعلق هذا الرجل تعلقًا مريضًا بحقله جعله أيضًا يحوم حول الأرضيات وينأى بنفسه عن السمائيات، حتى أنه يقول: "مُضْطَرٌّ" فقد تصنَّع الضرورة بدون ضرورة.

ب– اعتذر الثاني قائلًا: "إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي" (لو 14: 19) وهذا أيضًا اعتذار غير منطقي لأن امتحان البقر، مثله مثل معاينة الحقل، يتم نهارًا، بينما الدعوة للعشاء ليلًا. كما أن هذا الرجل لا بد بأنه امتحن هذه الأبقار الخمس قبل شرائها. وما دام أنه قد امتحن هذه الأبقار واشتراها فهيَ باقية له يستكمل امتحانها بعد أن يلبي دعوة العشاء، ولكن مثلما ارتبط الأول بالأرض والأرضيات وتهاون بأبديته، هكذا انشغل الثاني بشهواته الجسدية متغافلًا أبديته.

جـ- اعتذر الثالث قائلًا: "إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ فَلِذلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ" (لو 14: 20) دون أن يوضح وقت اقترانه بهذه الزوجة، فليس من المعقول أن الدعوة وُجِهت له خلال احتفالات عُرسه، ولكن لا بد من أن هذه الوليمة جاءت بعد احتفالات عُرسه، فكان من الممكن أن يصطحب عروسه معه إلى هذا العشاء العظيم، كانت الشريعة لا تلزم المتزوج حديثًا خلال سنة أن يخرج إلى الحرب (تث 24: 5) ولكن هذا الزوج كان بعد انقضاء أيام العُرس يعود إلى عمله ونشاطه وعلاقاته الاجتماعية، ومن الملاحظ أن هذا الزوج لم يقدم اعتذاره وأسفه كما فعل سابقية، فلم يقل لرب البيت " أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي" علامة لم يدرك أهمية هذه الدعوة، فإنها ترمز للوليمة السمائية: "وَقَالَ لِيَ اكْتُبْ طُوبَى لِلْمَدْعُوِّينَ إِلَى عَشَاءِ عُرْسِ الْخَرُوفِ" (رؤ 19: 9) (راجع عب 9: 15).

St-Takla.org Image: Parable of the Great Banquet: A rich man invites the poor, blind, lame, and crippled to a feast after the original guests have declined the invitation: (Luke 14) - from the book: History of Jesus Christ (Historia von Iesu Christi), by Johann Christoph Weigel, 1695. صورة في موقع الأنبا تكلا: مثل الوليمة الكبرى: رجل غني يدعو الفقراء والعمي والعرج والمعاقين إلى وليمة بعد أن رفض الضيوف الأصليون الدعوة: (لوقا 14) - من كتاب: تاريخ السيد المسيح، يوهان كريستوف فيجيل، 1965 م.

St-Takla.org Image: Parable of the Great Banquet: A rich man invites the poor, blind, lame, and crippled to a feast after the original guests have declined the invitation: (Luke 14) - from the book: History of Jesus Christ (Historia von Iesu Christi), by Johann Christoph Weigel, 1695.

صورة في موقع الأنبا تكلا: مثل الوليمة الكبرى: رجل غني يدعو الفقراء والعمي والعرج والمعاقين إلى وليمة بعد أن رفض الضيوف الأصليون الدعوة: (لوقا 14) - من كتاب: تاريخ السيد المسيح، يوهان كريستوف فيجيل، 1965 م.

وبلا شك ليس مع رفض الاعتذار الثالث أننا نهجر زوجاتنا، لأن رباط الزوجية مُكرَّم ومقدَّس. يقول "الأب ثيوتاس": "أنني لا أرفض رباط الزوجية، لا بل أُسلّم به في حب أعظم، لأنني بهذا أشهد مُعترفًا لزوجتي التي عينها لي الرب وأكرمها، ولا أرفض الارتباط بها برباط الحب في المسيح الذي لا ينفك أبدًا" (320). ويقول "القديس اكليمنضس السكندري": "إله السلام الذي يحثنا أن نحب أعدائنا لا يُدخِل فينا الكراهية والانحلال من جهة من هم أعزاء علين. إن كنا نحب أعدائنا فبالأكثر نرتفع لنحب الأعزاء القريبين منا" (321).

أما عن التساؤل: من هم الْجُدْعَ؟ فالجُدع هم الذين قُطع أحد أعضائهم مثل الأنف أو الأذن أو أحد أطرافهم مثل اليد أو الرجل، فهم من أصحاب الإعاقة، وبلغة العصر من أصحاب الهمم أو أصحاب الحالات الخاصة، وبلا شك أنهم يجدون صعوبة في كسب قوت يومهم.

 

2- لماذا اختلفت تفصيلات الوليمة في إنجيل لوقا (لو 14: 16-24) عنها في إنجيل متى (مت 22: 2-14)..؟ في الغالب أن السيد المسيح ذكر هذا المَثَل أكثر من مرة، فالقديس متى تخيَّر ما يناسبه وهو يكتب لليهود، بينما تخيَّر القديس لوقا ما يناسبه وهو يكتب للأمم، لذلك ظهرت بعض التباينات بين إنجيلي متى ولوقا، فمثلًا:

أ– ذكر القديس متى أن الدعوة كانت على الغذاء: "هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُه" (مت 22: 4)، بينما ذكر القديس لوقا أن الدعوة كانت على العشاء: "إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا" (لو 14: 16)، وذلك لأن القديس متى يكتب لليهود الذي كان حاضرًا بينهم السيد المسيح شمس البر لذلك جاءت الدعوة على الغذاء في النهار، بينما كان الوقت "ليل الأمم" لذلك جاءتهم الدعوة على العشاء.

ب– القديس متى الذي يكتب لليهود يعلن عن قرب رفضهم، وحرق مدينتهم المقدَّسة أورشليم لذلك كتب: "فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ" (مت 22: 7) بينما تغافل القديس لوقا هذا الإنذار الموجه لليهود قتلة الأنبياء.

جـ- ذكر القديس متى الذي كتب لليهود الرجل الذي دخل إلى العرس وليست عليه ثياب العرس (مت 22: 11-13) وختم المَثَل بقوله: "لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ" (مت 22: 14) فاليهود سبق دعوتهم في العهد القديم وكانوا يُمثلون شعب اللَّه المختار الذين من المفروض أن يكون لديهم ثياب العُرس، بينما تغافل القديس لوقا هذه الأمور لأنه يكتب للأمم ليدعوهم للإيمان.

3- كيف يُلزِم رب البيت السائرين في الطرق والسياجات لحضور الحفل (لو 14: 23)..؟ عندما اعتذر المدعوين عن حضور العشاء العظيم، وقدم كل منهم حجته غضب رب البيت وقال: "لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي" (لو 14: 24) وهذا يذكرنا بقول بولس الرسول: "كَمَا قَالَ: حَتَّى أَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي: لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي" (عب 4: 3)، ولم يُلغي رب البيت الاحتفال، إنما كلَّف عبده أن يدخل للبيت المساكين والجُدع والعرج والعمي، وعندما علِمَ أنه ما زال هناك مكان يتسع لآخرين: "فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي" (لو 14: 23)، والمقصود بقوله " وَأَلْزِمْهُمْ" ليس أن يدخلهم رغم عن أنوفهم، إنما يلح عليهم حتى يقنعهم بالدخول فيدخلون برغبتهم وبكامل حريتهم. ويجب أن نُدرك أن رب البيت أرسل عبد واحد، فما هيَ إمكاناته حتى يلزم الذين في الطرق والسياجات لدخول بيت سيده؟!! بكل تأكيد لن يستطيع أن يفعل هذا بالقوة. كما أن السيد المسيح يحترم الحرية الشخصية لكل إنسان بدليل قوله للغني: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ.." (مت 19: 21)، وقال للجموع: "مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا أَبَانَا.." (لو 11: 2).. " وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ" (مت 6: 16) كما أن الدليل واضح من قصة الوليمة هذه، عندما اعتذر المدعوين عن حضور هذا العشاء، وكل واحد كانت له حجته الواهية، احترم رب البيت رغبتهم هذه ولم يأمر عبيده أن يلزمونهم بدخول البيت، إنما كلف عبده بأن يدعو المهمشين والمنسيين من الجُدع والعُرج والعُمي والذين في الطرق والساجات. أولئك الذين لا يتوقعون أن توجه لهم دعوة مثل هذه، حتى أنهم كانوا في حاجة شديدة لتأكيد هذه الدعوة وأنه مرغوب فيهم ومُرحب بهم، بالرغم من أنهم مهمشين ومنبوذين، وهذا ما حاول بولس الرسول أن يؤكده: "فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ الرَّبِّ نُقْنِعُ النَّاسَ... إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ كَأَنَّ الله يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ تَصَالَحُوا مَعَ الله" (2 كو 5: 11، 20). وقال لأهل روما: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ الله.." (رو 12: 1) وأيضًا الذين يسقطون تحت سطوة إبليس ويسيطر على تصرفاتهم يحتاجون لقوة إلهية تلزمهم بالعودة للسلوك المُستقيم، فيقول "القمص تادرس يعقوب": "كيف يلزمهم بالتمتع بالوليمة مع أن الدعوة اختيارية للإيمان؟ يُجيب القديس كيرلس الكبير بأن الأمم صارت كمن في عبودية إبليس غير قادرة على الحركة، تحتاج إلى من يجتذبها من هذه العبودية كقول السيد: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ" (يو 6: 44). هذا الاجتذاب يتحقق بقوة اللَّه العامل على الأمم ليقبلوا السيد المسيح، فالالتزام هنا لا يعني فقدان الإنسان حرية إرادته، إنما تقديم العون الإلهي الذي يدفعه للإيمان. الإنسان في إيمانه أيضًا يسأل الرب كمال حريته أن يقتنصه لملكوته كمن يلزمه، بمعنى أنه بإرادته يسلم حياته في يد الرب ليعمل فيه حسب إرادته الإلهية" (322).

← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.

4- هل يحض السيد المسيح على بغضة الوالدين والزوجة والأولاد والإخوة والأخوات (لو 14: 26) أما أنه يحض على محبة الجميع حتى الأعداء (مت 5: 44)..؟ لماذا قال السيد المسيح: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا".. قال هذا لأن الجماهير عندما سمعت تعاليمه وشاهدت معجزاته العجيبة تحمسوا جدًا لتبعيته، فقصد أن يفرمل تلك الجماهير الطائشة الذين ظنوا أن الطريق للملكوت مفروش بالورود، فقد يستلزم التضحية بمحبة أعضاء الأسرة إذا تعارضت محبتهم مع تبعية المسيح، ولهذا الهدف قال لهم السيد المسيح: "وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" (لو 14: 27) وأوصاهم أن يحسبوا النفقة قبل أن يفكروا في تبعيته، مثل الذي يُريد أن يبني برجًا فإنه يجلس أولًا ويحسب النفقة (لو 14: 28). وجاء في "التفسير التطبيقي": "لقد أعطى الرب يسوع هذا التعليم للجموع حتى لا يندفعوا في حماس سطحي لاتباعه. وقد حث يسوع السطحيين إما أن يتفهموا ويعرفوا أن هناك تكلفة لاتباعه أو أن يرجعوا عنه. إن اتباع يسوع معناه الخضوع الكامل له حتى إلى الموت. حينما لا يحسب الإنسان تكاليف البناء الذي يبنيه أو لا يقدره بدقة، فإنه قد يعجز من إتمام البناء... وما هي هذه التكاليف؟ فقد يواجه الإنسان المسيحي خسارة في المركز الاجتماعي أو في المال، وقد يضطر إلى فقد ماله أو وقته أو وظيفته، وقد يكرهه البعض أو تعزله أسرته أو حتى يحكم عليه بالموت. فاتباع المسيح ليس معناه حياة خالية من المتاعب، فيجب أن نحسب بدقة تكاليف التلمذة للمسيح حتى نعرف ما نحن مُقبلون عليه وحتى لا نتعرض فيما بعد لتجربة الارتداد عنه" (323).

لقد أوصى السيد المسيح بمحبة الجميع حتى الأعداء قائلًا: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ" (مت 5: 44)، ولكن عندما تتعارض محبة أي شيء أو أي إنسان مع محبة المسيح: "يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ الله أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (أع 5: 29)، بل تكن محبتنا للمسيح أكثر بما لا يُقاس بأي محبة أخرى، حتى محبتنا لأنفسنا. وكل محبة تتضاءل أمام محبتنا للمسيح إلهنا، حتى أنها تبدو وكأنها "بغضة".. إذًا عندما قال السيد المسيح: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ" لم يقصد على الإطلاق أن نكره ذوينا، فهو الذي أحبَّ أمه، وكان وفيًّا لها في أشد اللحظات الحالكة على الصليب، فأوصى بها يوحنا الحبيب (يو 19: 26، 27) ليس من المعقول أن يطلب منا أن نُبغض أمهاتنا، ولكن إذا تعارضت وصية المسيح مع محبتنا لوالدينا، فينبغي بلا تردد أن نضع محبتنا للمسيح في المقام الأول.

وفي المفهوم العبري "البُغضة" تعني المحبة الأقل، فمثلًا عندما كانت محبة يعقوب لليئة أقل كثيرًا من محبته لراحيل، قال الكتاب: "وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ لَيْئَةَ مَكْرُوهَةٌ فَفَتَحَ رَحِمَهَا... فَحَبِلَتْ لَيْئَةُ وَوَلَدَتِ ابْنًا... وَقَالَتْ إِنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ أَنِّي مَكْرُوهَةٌ فَأَعْطَانِي" (تك 29: 31-33)، وهكذا قيل عن الزوجة التي تتمتع بحب أقل من قِبَل زوجها: "إِذَا كَانَ لِرَجُل امْرَأَتَانِ إِحْدَاهُمَا مَحْبُوبَةٌ وَالأُخْرَى مَكْرُوهَةٌ.." (تث 21: 15) وبنفس المنطق جاء قول الرب: "أَلَيْسَ عِيسُو أَخًا لِيَعْقُوبَ يَقُولُ الرَّبُّ وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ" (ملا 1: 2، 3) وقال الرب يسوع: "مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يو 12: 25).

يقول "بوب إتلي": "يُبْغِضُ أَبَاهُ" هذه عبارة إصطلاحية عبرية هدفها المقارنة (تك 29: 31، 33، تث 21: 15، ملا 1: 2-3، رو 9: 13، يو 12: 25). من الواضح أن هذا لا يمكن أن يُؤخذ حرفيًا بسبب قول يسوع بأن عليك أن تكرم أباك وأمك في (مت 15: 4)، والتي تعكس الوصايا العشر. هذا القسم يتكلم عن إماتة الذات... والأوليات الأرضية الدنيوية. في الشرق الأدنى التعهد والالتزام نحو العائلة يُلغي أي التزام آخر، ولكن يسوع يجب أن يصبح له الأولوية الأولى للمؤمنين (انظر لو 12: 49-53، مت 10: 34-39)" (324).

وجاء في سورة الممتحنة أن إبراهيم تبرأ من أهله وحلَّت العداوة بينه وبينهم لأنهم أرادوا أن يردوه إلى عبادة الأوثان: "قَد كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةُّ حَسَنَة في إبْرَاهِيم والَّذين مَعَهُ إذ قَالُوا لِقَومِهِمْ إنَّا بُرَاء مِنكْم وَمِمَّا تَعْبَدُونَ مِن دونِ الله كَفَرنَا بكْمً وَبَدَا بَينَّنَّا وَبُينّكْمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغضَاء أبَدًا حَتَّى تُؤمِنوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.." (سورة الممتحنة 60: 4). وجاء في كتاب "الهداية": "إذا كان الأب يدخل بيننا وبين عبادة خالقنا وجب نبذه... فإن اللَّه هو خالقنا ورازقنا وحافظنا وبيده نسمة حياتنا ونحن له وليس لأنفسنا وحقوقه علينا أهم وأعظم من حقوق الأب والأم والأخ والأولاد علينا، وهذا لا ينافي وجوب إكرام الوالدين، فالدين المسيحي يحضنا على إكرام الوالدين وتقديم الطاعة لهم، ولكنه يعلمنا في آن واحد أن إكرام الوالدين لا يجوز أن يعبث بحقوق خالقنا علينا أو يحوّل بيننا وبين محبة خالقنا. ورد في القرآن أن نفس الإنسان هيَ من أعدائه فقال أن النفس لأمارة بالسوء، وقال في القرآن أن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فأحذروهم، وورد في الحديث... عدوك نفسك التي بين جنبيك وامرأتك التي تضاجعك وأولادك الذين من صلبك. قال الراغب الأصفهاني وجعل محمد هؤلاء أعداء الإنسان لما كانوا سببًا لإهلاكه الأخروي" (325).

ويقول "الخوري بولس الفغالي": "المعلم الذي فرض على التلميذ أن يحب حتى أعداءه، يبدو هنا وكأنه يعارض نفسه بنفسه، ولكن يجب أن نتذكر أن فعل "البغض" في العهد القديم ولا سيما في الأدب الحِكمي، لا يتضمن رفضًا أنانيًا لكل علاقة بشرية، بل ينزع الطابع المُطلق عن أمور هذا العالم نزعًا إراديًا (وهكذا نعيد تقييمه) فيجعلها تنتقل إلى المركز الثاني حين تكون مصالح اللَّه في خطر. أن يسوع يفرض حبًا مُطلقًا (لا نسبيًا). وصدقًا كاملًا وتكريمًا لشخصه من دون قيد ولا شرط. هذا لا يعني إنكار العواطف الشرعية التي تربطنا بعائلتنا أو محبة حياتنا. ولكن يجب أن نخضع كل شيء لمحبتنا ليسوع. وعندما تهدد سلسلة القيم هذه، وحين يكون نزاع بين العواطف البشرية (حتى السوداء منها) وخدمة المسيح، فلن يبقى موضع للتردد، فخدمة المسيح ومحبته تتغلبان على كل شيء فينا" (326).

ويقول "القديس كيرلس الكبير": "ربما يقول أحد: فماذا يا رب، هل أنت تحتقر العاطفة الطبيعية؟ هل تأمرنا أن نُبغض بعضنا بعضًا وأن نتجاهل الحب الذي يحق للآباء من أبنائهم، والزوجات من أزواجهن، والإخوة من إخوتهم؟ هل سنجعل من هم أعضاء في نفس العائلة أعداء لنا، وللذين من واجبنا بالأولى أن نحبهم يلزمنا أن نعتبرهم كأعداء وذلك لكي نكون معك ولكي ما يمكننا أن نتبعك؟

ليس هذا هو ما يقصده المُخلص، حاشا أن يكون له مثل هذا الفكر الباطل، فإن الذي يأمر أن نحب حتى الأعداء وبأن نغفر لكل من يسيئ إلينا إذ يقول: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ... وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ" (مت 5: 44)، كيف يمكن أن يريدنا أن نبغض من هم مولودون من نفس الأسرة، وأن نغفل الإكرام الواجب بالوالدين، وأن نزدري بإخوتنا، بل نبغض أولادنا أيضًا وكذلك أنفسنا؟ لأن الذي قد نطق بالدينونة حتى على أولئك الذين يهملون قانون المحبة المتبادلة، لا يمكن أن يُريد أن يكون لأحبائه ذهن متوحش أو فكر مقهور، لكن ما يُريد أن يعلّمه بهذه الوصايا هو واضح لأولئك الذي يمكنهم أن يفهموا ما قيل في موضع آخر عند نفس الموضوع: "مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" (مت 10: 37). إذًا بإضافة عبارة " أَكْثَرَ مِنِّي " يتضح أنه يسمح لنا أن نحب لكن ألاَّ نحبهم أكثر منه، لأنه يطلب لنفسه عاطفتنا الرئيسية، ذلك عادل جدًا، لأن محبة اللَّه فيمن هم كاملون في الذهن، فيها شيء ما أعلى وأسمى من الإكرام الواجب للوالدين، وأسمى من العاطفة الطبيعية التي نشعر بها تجاه الأولاد" (327).

ويقول "القديس أمبروسيوس": "اللَّه لا يُريدنا أن نجهل الطبيعة (الحب الطبيعي العائلي) ولا أيضًا أن نُستعبد لها، وإنما نُخضع الطبيعة ونُكرم خالق الطبيعة، فلا نتخلى عن اللَّه بسبب حبنا للوالدين" (328).

ويقول "متى هنري": "ولا يمكن لأحد أن يكون تلميذًا للمسيح ما لم " يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ... حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا"، ولن يكون مُخلصًا وتائبًا ومثابرًا ما لم يحب المسيح أكثر من أي شيء في العالم... كل إنسان صالح يحب أقاربه، ومع ذلك فإنه إذا أصبح تلميذًا للمسيح يجب أن يبغضهم، بمعنى أن يحبهم بدرجة أقل نسبيًا وليس معنى هذا أن يصبحوا أشخاصًا مكروهين بأي صورة، بل أن حبنا وسعادتنا بهم يجب أن تبتلع في محبتنا للمسيح، وحين يتعارض واجبنا تجاه الدنيا مع واجبنا الصريح تجاه المسيح يجب أن تكون الأولوية للمسيح. وإذا كان أمامنا إما أن ننكر المسيح أو نبعد عن عائلاتنا وأقاربنا، كما حدث بالنسبة لكثيرين من المسيحيين الأوائل، فهنا علينا أن نضحى بشركتنا معهم ولا نضحي بعلاقتنا بالرب يسوع. وكل إنسان يحب نفسه، لا يوجد إنسان قط يكره نفسه، ولكننا لا نستطيع أن نكون تلاميذ للمسيح إذا لم يكن بمقدورنا أن نحبه أكثر من حياتنا. واختبار مسرات الحياة الروحية، وإيماننا وتوقعاتنا الراسخة بالنسبة للحياة الأبدية تجعل القول الصعب سهلًا" (329). (راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س326).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(320) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص366.

(321) المرجع السابق، ص366.

(322) الإنجيل بحسب لوقا، ص368.

(323) التفسير التطبيقي، ص2025، 2026.

(324) لوقا المؤرخ: إنجيل لوقا، ص321.

(325) الهداية جـ 2، ص290.

(326) إنجيل لوقا جـ 2 صعود يسوع إلى أورشليم، ص392، 393.

(327) ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص506، 507.

(328) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص370.

(329) التفسير الكامل للكتاب المقدَّس جـ 1 العهد الجديد - الأناجيل الأربعة، ص488، 489.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/603.html

تقصير الرابط:
tak.la/nnk85xb