St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

619- ما دام يسوع إنسانًا متضعًا لماذا دخل أورشليم بضجة عظيمة (لو 19: 37، 38)؟ وكيف تغافل لوقا الإنجيلي ما ذكره يوحنا من أن الجمع الكثير أخذوا سعوف النخيل وخرجوا للقائه وهم يهتفون لملك إسرائيل، وذكر نبوة زكريا النبي وأن التلاميذ لم يفهموا هذه الأمور (يو 12: 13-16)؟ ولماذا بكى يسوع على أورشليم (لو 19: 41) المدينة العاصية التي هتفت له يوم الأحد (لو 19: 38) وهتف ضده وصرخت "اصْلِبْهُ اصْلِبْهُ" يوم الجمعة (لو 23: 21)؟ وهل ما جاء في (لو 19: 43، 44) كُتب بعد سقوط أورشليم سنة 70م؟

 

س619: ما دام يسوع إنسانًا متضعًا لماذا دخل أورشليم بضجة عظيمة (لو 19: 37، 38)؟ وكيف تغافل لوقا الإنجيلي ما ذكره يوحنا من أن الجمع الكثير أخذوا سعوف النخيل وخرجوا للقائه وهم يهتفون لملك إسرائيل، وذكر نبوة زكريا النبي وأن التلاميذ لم يفهموا هذه الأمور (يو 12: 13-16)؟ ولماذا بكى يسوع على أورشليم (لو 19: 41) المدينة العاصية التي هتفت له يوم الأحد (لو 19: 38) وهتف ضده وصرخت "اصْلِبْهُ اصْلِبْهُ" يوم الجمعة (لو 23: 21)؟ وهل ما جاء في (لو 19: 43، 44) كُتب بعد سقوط أورشليم سنة 70م؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: 1- ما دام يسوع إنسانًا متضعًا لماذا دخل أورشليم بضجة عظيمة (لو 19: 37، 38). هذا هو الدخول الأخير ليسوع إلى أورشليم حيث سيُسلم نفسه للموت ليُصلَب ويموت ويقوم ويتمم الفداء، ولذلك رتب الرب يسوع هذا الدخول الاحتفالي إلى أورشليم فأرسل اثنين من تلاميذه فأحضروا له أتان وجحش ابن أتان ليدخل المدينة راكبًا على أتان وجحش بالرغم من صغر المسافة، وذلك مُتممًا لنبؤة زكريا النبي (زك 9: 9)، "وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ التَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ الله بِصَوْتٍ عَظِيمٍ" (لو 19: 36، 37).. " وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً مَنْ هذَا" (مت 21: 10)، فهوذا يسوع الذي طالما أوصاهم أن لا يظهروه وأن لا يخبروا بعجائبه لم يمنع تلاميذه مع الأطفال بالهتاف له، بل أنه دافع عنهم: "وَأَمَّا بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالُوا لَهُ يَا مُعَلِّمُ انْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ" (لو 19: 39، 40). لقد اعتاد الأنبياء أن يُقدموا ما يُريدون أن يقولوه عن طريق التمثيل الروائي ليكون أكثر قوة وتمييزًا، فأخيا الشيلوني عندما إلتقى يربعام أخذ الرداء الجديد الذي يرتديه ومزقه اثنتي عشرة قطعة أعطى منها يربعام عشرة قطع إشارة إلى أن اللَّه أعطاه أن يملك على عشرة أسباط (1 مل 11: 29-31)، وطمر إرميا النبي منطقة كتان حتى فسدت إشارة لفساد كبرياء يهوذا وأورشليم (إر 13: 1-11)، ووضع إرميا ربطًا وأنيارًا على عنقه إشارة لنير نبوخذ نصر ملك بابل (إر 27: 1-11) ورسم حزقيال النبي مدينة أورشليم على لبنة وأقام عليها برجًا ومترسة وجيوشًا إشارة لحصارها (حز 4: 1-3) ونام على جنبه الأيسر (390) يومًا، وعلى جنبه الأيمن (40) يومًا إشارة إلى آثام بني إسرائيل ويهوذا (حز 4: 4-8) وحلق شعر رأسه ولحيته فحرق ثلثه وضرب ثلثه بالسيف، وذرى الثلث الثالث إشارة إلى ما سيصيب بيت إسرائيل (حز 5: 1-4).. إلخ، وهكذا دخل السيد المسيح إلى أورشليم كملك منتصر ليؤكد أنه المسيا، الذي في ميلاده ظهر جمهور من الجند السماوي يهتفون (لو 2: 14) وفي دخوله الاحتفالي إلى أورشليم هتف له الأطفال مع جمهور التلاميذ (لو 19: 38). أما أورشليم فقد رفضته وصلبته، وبالرغم من أن يسوع هو ملك الملوك إلاَّ أنه لم يجلس على صهوة جواد قط، بل أنه وُلِدَ في مذود الحيوانات وركب الأتان وهو طفل مع أمه إلى الناصرة ومن الناصرة إلى بيت لحم إلى أرض مصر والعودة منها وهو صبي، الذي لم يحتمل جبل موسى تجليه عليه فاهتز واضطرب وارتجف وصعد دخانه كدخان الآتون (خر 19: 18، 19) ركب على حمار في تواضعه.

St-Takla.org Image: Coloring picture of the Entry of Christ into Jerusalem - Courtesy of "Encyclopedia of the Bible Coloring Images". صورة في موقع الأنبا تكلا: صورة تلوين لدخول الرب يسوع إلى مدينة أورشليم - موضوعة بإذن: موسوعة صور الكتاب المقدس للتلوين.

St-Takla.org Image: Coloring picture of the Entry of Christ into Jerusalem - Courtesy of "Encyclopedia of the Bible Coloring Images".

صورة في موقع الأنبا تكلا: صورة تلوين لدخول الرب يسوع إلى مدينة أورشليم - موضوعة بإذن: موسوعة صور الكتاب المقدس للتلوين.

2- كيف تغافللوقا الإنجيلي ما ذكره يوحنا من أن الجمع الكثير أخذوا سعوف النخيل وخرجوا للقائه وهم يهتفون لملك إسرائيل، وذكر نبوة زكريا النبي وأن التلاميذ لم يفهموا هذه الأمور (يو 12: 11-16)..؟ من الطبيعي أن الأناجيل الأربعة تتكامل، لأنها في الحقيقة هي إنجيل واحد دوَّنه أربعة أشخاص، فكل ما ذكره القديس يوحنا من أن:

أ– إن الجمع الكثير خرج من أورشليم للقائه وهم يحملون سعوف النخل ويهتفون لملك إسرائيل.

ب- نبوءة زكريا النبي عن دخوله أورشليم وكيف تمت كما صوَّرها ذلك النبي.

جـ- إن هذه الأمور لم يفهمها تلاميذه إلاَّ بعد أن تمجَّد يسوع، أي بعد صلبه وقيامته المقدَّسة وصعود إلى السماء.

فإن القديس لوقا لم ينكر واحدة من هذه الأمور التي ذكرها يوحنا، ومن الجانب الآخر ذكر لوقا الإنجيلي بعض الأمور التي لم يذكرها يوحنا الحبيب مثل إرسال اثنين من تلاميذه لاحضار الجحش من القرية، وبماذا يجيبان عندما يسألهما أحد عن سبب أخذ الجحش (لو 19: 30-34)، وأن التلاميذ فرشا ثيابهما على الجحش (لو 19: 35) وأن الجموع فرشوا ثيابهم في الطريق (لو 19: 36).. إلخ، ومن المفهوم أن الناس لم يخلعوا ثيابهم ومشوا عراة، إنما خلعوا أرديتهم الخارجية وفرشوها على الأرض (راجع مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (1) س59). وأيضًا يؤخذ في الاعتبار أن يوحنا الحبيب عندما كتب إنجيله مع نهاية القرن الأول كان تحت يده الأناجيل الأزائية الثلاث مرقس ومتى ولوقا، فاجتهد أن لا يكرر ما كتبوا عنه لذلك جاءت تشابهاته مع الأناجيل الأزائية فقط نحو 10%، بينما إنفرد بنحو 90% من إنجيله. ومن الملاحظ أيضًا أن نبوءة زكريا التي ذكرها يوحنا الحبيب تُعيد للأذهان نبوءة صفنيا النبي: "تَرَنَّمِي يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ. اهْتُفْ يَا إِسْرَائِيلُ. افْرَحِي وَابْتَهِجِي بِكُلِّ قَلْبِكِ يَا ابْنَةَ أُورُشَلِيمَ... مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الرَّبُّ فِي وَسَطِكِ... فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يُقَالُ لأُورُشَلِيمَ لاَ تَخَافِي يَا صِهْيَوْنُ. لاَ تَرْتَخِ يَدَاكِ. الرَّبُّ إِلهُكِ فِي وَسَطِكِ جَبَّارٌ... يُخَلِّصُ" (صف 3: 14 - 17).

3- لماذا بكى يسوع على أورشليم (لو 19: 41) المدينة العاصية التي هتفت له يوم الأحد (لو 19: 38) وهتفت ضده وصرخت " اصْلِبْهُ اصْلِبْهُ " يوم الجمعة (لو 23: 21)..؟ أورشليم مدينة قديمة جدًا كان اسمها "ساليم" وكان ملكها " مَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ" (تك 14: 18) الذي التقى بإبراهيم أب الآباء بعد عودته منتصرًا من حرب كدرلعومر، فقدم له إبراهيم العشور، وهو بارك إبراهيم، وكان رمزًا للسيد المسيح فلم يذكر له الكتاب بداية أيام ولا نهاية أيام، ثم تغيَّر اسمها إلى " يَبُوسَ" (قض 19: 10، 11) وقد جعلها داود عاصمة مملكته ونقل إليها تابوت العهد لتكون مركزًا سياسيًا ودينيًا (2 صم 6: 12-20) وبنى فيها سليمان هيكل رب الصباؤوت (1 مل 6) على جبل المريا الذي قدم عليه إبراهيم ابنه الوحيد الحبيب إسحق محرقة (تك 22: 1، 2)، وهو بيدر أرونة اليبوسي الذي بنى داود فيه مذبحًا للرب فوقف الوباء (2 صم 24: 18-25). ودعى إشعياء النبي "أورشليم"، " مَدِينَةَ الْعَدْلِ الْقَرْيَةَ الأَمِينَةَ" (إش 1: 26) كما دعاها " أَرِيئِيلَ" (إش 29: 1) وقد تعني "جبل اللَّه" أو "فوق مذبح اللَّه" وقد وُرد اسم "أورشليم" في الكتاب المقدَّس نحو (806) مرة، (660) في العهد القديم، و(146) في العهد الجديد. كانت أورشليم المدينة المقدَّسة مدينة الأنبياء والمذبح والهيكل موضع حب اللَّه: "الرَّبُّ أَحَبَّ أَبْوَابَ صِهْيَوْنَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ. قَدْ قِيلَ بِكِ أَمْجَادٌ يَا مَدِينَةَ الله" (مز 87: 2، 3) ورنم لها إشعياء النبي وأشاد بمجدها: "قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ.." (إش 60: 1 - 22).

وبسبب خطاياها وآثامها وعصيانها ورفضها لكلمة اللَّه وقتلها الأنبياء رثاها إرميا النبي بسبب ما يلحق بها من دمار وخراب وحرق ونار على يد نبوخذ نصر ملك بابل (مرا 1) وانشغل بها حزقيال النبي وأشار إلى حصارها إذ أخذ لِبْنَةً كقول الرب ورسم عليها مدينة أورشليم وجعل عليها حصارًا وبرجًا ومترسة وجيوشًا (حز 4: 1-3) ودعاها "مدينة الدماء" و "المدينة السافكة الدم" وقال عنها " يَا نَجِسَةَ الاسْمِ يَا كَثِيرَةَ الشَّغَب ".. " فِيكِ أَهَانُوا أَبًا وَأُمًّا. فِي وَسْطِكِ عَامَلُوا الْغَرِيبَ بِالظُّلْمِ. فِيكِ اضْطَهَدُوا الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. ازْدَرَيْتِ أَقْدَاسِي وَنَجَّسْتِ سُبُوتِي" (حز 22: 7-16).

وإلى أورشليم دخل ملك السلام، وكما أن الملك عندما يدخل عاصمة مملكته يتجه رأسًا إلى قصره، هكذ اتجه المسيح الملك إلى هيكله، فتحقَّقت نبوءة ملاخي النبي: "وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ" (ملا 3: 1)، وللأسف وجده قد صار وكرًا للصوص: "هَلْ صَارَ هذَا الْبَيْتُ الَّذِي دُعِيَ بِاسْمِي عَلَيهِ مَغَارَةَ لُصُوصٍ فِي أَعْيُنِكُمْ؟!" (إر 7: 11) فأمسك سوطًا وطهَّر الهيكل قائلًا: "مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ" (مت 21: 13) ولكن ظل الشعب متمسكًا بمعاصيه وخطاياه وضيَّع الفرصة على نفسه فرثاها الرب يسوع (مت 23: 37-39) وقال لليهود: "هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا" (مت 23: 38).. أورشليم مدينة الأنبياء والمذبح والهيكل تاج مدن الأرض بكاها رب الكل ورثاها إذ نظر الخراب والدمار والكوارث التي ستحل بها... مدينة الجمال الفائق التي يتربع عليها هيكل رب الجنود بروعته وجلاله، إذ تداعب أشعة الشمس رقائق الذهب، وأيضًا الرخام الأبيض اللذان تكتسي بهما جدران الهيكل فتبدو كجوهرة لامعة وبلورة رائعة. كتب "يوسيفوس" في كتابه "حروب اليهود" في الفصل الخامس من كتابه الخامس: "يوجد على واجهة الهيكل الأمامية ما يُبهِر الناظر ويخلب لبه بالنسبة لألواح الذهب الثقيلة الوزن، وكلما بزغت الشمس من خدرها أرسلت أشعتها النورانية على الذهب فترتد الأشعة لضياء وهاج متلألئ لا يستطيع الإنسان أن ينظر إليه، بل يُدير وجهه لئلا يأخذ بريق الذهب من عينيه كمن رد وجهه بعيدًا عن أشعة الشمس ذاتها... وكان يخيل للناظر الغريب أن الهيكل قمة جبل بلوري تكسوه الثلوج البيضاء الناصعة"(402). ومن التحف الرائعة الجمال تلك الكرمة التي صنعها هيرودس الملك من ذهب خالص وزين بها واجهة الهيكل بعد أن أعاد تجديده وتوسيعه، الأمر الذي استغرق (46) سنة (يو 2: 20).

تأمل يسوع هذا الجمال، وتلك الحشود التي تهتف له، وتلاميذه الذين يشيدون بأحجار الهيكل وجماله، وإذ كله تحوَّل إلى خراب ودمار ودماء ونار يُحيط بها غابة من الصلبان فبكى عليها وزرف الدمع مع العبرات. ويقول "دكتور وليم باركلي": "وسالت عبرات يسوعى على خديه... دموع ابن اللَّه الطاهرة الطهورة... وما كان أغناه عن تلك الدموع من جراء آلامهم وخرابهم الذي حدث بسب ثورتهم ضد إرادة اللَّه" (403). كما يقول "وليم باركلي": "ولم يخطر ببال أي يهودي أن يتهدَّل بناء هذه التحفة النادرة كما يتهدَّل وجه حسناء بارعة الجمال، فهل يتردى ويسقط هذا البناء المنيف الرائع على الأرض ويضحى رمسًا وترابًا" (404). كان من السهل على أن إنسان يهودي يتصوَّر نهاية العالم، عن أن يزول مجد الهيكل وجماله، حتى أن "تاسيتوس" المؤرخ الروماني قال: "إن الهيكل ذو الغنى الذي لا يزول" (405).

الأمر المدهش والعجيب أن كل آلام الصليب وأهواله لم تستدعي الرب يسوع أن يزرف دمعة على نفسه، إنما زرف الدموع الغزيرة على مدينته وشعبه.

ويقول "القس أنجيلوس جرجس": "آه لو تعرفي يا أورشليم لماذا كان يبكي السيد؟ آه لو عرفتي مشاعره نحوك؟ فلقد كانت بينه وبين أورشليم قصة عمقها في بطون التاريخ... ذكريات الحب التي كانت من جيل إلى جيل، منذ إبراهيم الذي أعطاها له بركة وميراثًا. نعم، أنها أورشليم صاحبة المجد القديم، مقصد الشعب التائه في البرية، وحلم الابن الجائع في أرض العسل واللبن، أورشليم التي لم يدخلها موسى النبي أعظم الأنبياء، لأنه أخطأ ولم يُقدم إيمانًا قويًا في أحد المواقف، بل أعطاه بعد أن تضرع زمانًا إلى أن يراها من بعيد. نعم فقط من بعيد. أنها أورشليم مدينة الذكريات حيث القيثارات ونغمات تسبيح داود. هيَ مدينة سليمان الملك محط أنظار ملوك العالم كله، هيَ مدينة السلام التي بات في ربوعها التابوت وظهر فيها مجد اللَّه بين جوانب هيكله، هيَ أورشليم أسوارها وحصونها، بقلاعها ومجدها، بتأثيرها الذي لا يزال يردد مزاميرها وألحانها للملك العظيم الساكن فيها.

تذكر السيد المسيح له المجد تلك الصورة ولم يمسك مشاعره، فبكى. نعم بكى الملك الجبار حين رأى زمان ضياع مدينته، وانتهاء مجدها الروحي، بكى حينما رأى العروس المتزينة بأسوارها وذهبها، حبيبته كانت روحها مائتة، ومجدها مزَّيف ومذبحها يسكنه غربان الوادي. فكم أرسل إليها أنبياء ورسل ولكنها لم ترجع (مت 23: 37). كم حاول أن يحتضن مدينته ولم ترضَ، لقد أحبت ثلوج العالم عن دفئ أحضانه فقد كانت متعجرفة بصورتها المزيفة وأبوابها المذهبة، بكي السيد المسيح حينما مرت عليه صورة ذكرياتها معه عبر الزمان ولكنها الآن صورة مشوهة فلم تعد مدينته. نعم تركها، لأنها لم تعرف زمان افتقادها، رغم قصة الحب التاريخية. كعريس ترك عروسه لأنها لم تريده وفقدت صورتها الروحية، مع أنه قدم مهر خطبتها غالٍ جدًا وأرسل لها رسائل حب قوية تذيب القلوب. آه لو عرفت أورشليم سلامها. آه لو عرفت صورتها السمائية، ولكنه لأجل ظلمها وكبريائها قد أُخفي عن عينيها... ستهدم حصونها العالية وبنيها فيها، وسيتم بما قيل عنها في نبوءة إشعياء: "بِلاَدُكُمْ خَرِبَةٌ. مُدُنُكُمْ مُحْرَقَةٌ بِالنَّارِ. أَرْضُكُمْ تَأْكُلُهَا غُرَبَاءُ قُدَّامَكُمْ وَهِيَ خَرِبَةٌ كَانْقِلاَبِ الْغُرَبَاءِ" (إش 1: 7)" (406). (راجع أيضاُ الأنبا غريغوريوس - الإنجيل حسب القديس لوقا - ترجمة لجنة قداسة البابا كيرلس السادس ص423).

← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.

4- هل ما جاء في (لو 19: 43، 44) كُتب بعد سقوط أورشليم سنة 70م..؟ هكذا ادعى بعض النُقَّاد عن كثير من نبوءات العهد القديم بسبب ما تميَّزت به من دقة فائقة في وصف الحدث، وكان النبي ينظر الحدث ويصفه وصفًا تفصيليًا دقيقًا، ومثال على ذلك النبوءات التي ذكرها كل من إشعياء النبي وإرميا النبي عن الوصف التفصيلي لسقوط بابل وتبلغ نحو أربعة عشر نبوءة جعل البعض يشكّك في زمن كتابة هذه النبوءات، فادعى أنها كُتبت بعد سقوط "بابل" سيدة مدائن الأرض على يد "كورش" ملك فارس، وهذا ما تحدثنا عنه بالتفصيل ولا يتسع المجال للتكرار، لذلك يُرجى الرجوع إلى كتابنا: أسئلة حول الكتاب المقدَّس - عن: هل تحققت نبوءات الكتاب التي كان يصعب تصديقها؟ ويقول "القس ليون موريس": "قال البعض أن هذه الأقوال كُتبت في وقت لاحق، بعد خراب المدينة فعلًا، على أساس أنها تتضمن تفصيلات دقيقة، الأمر الذي لا يمكن معه أن تكون قد قيلت في عهد يسوع. ولكن إذا ما نَحَّيْنَا الآن مدى قوة يسوع التنبؤية، فما من شيء ورد هنا ليس مألوفًا في إجراءات الحصار في تلك الأيام والكثير منها سبق ذكره في العهد القديم. وما من سبب يدعو إلى الشك في صحة هذه الفقرة. وكما قال "مانسون" Manson أن وصف هذه الآيات على أنها من الكتابات المسيحية بعد الحدث (أي بعد دمار أورشليم سنة 70م) هو نوع من الشطط يضر بحركة النقد الواعي المتزن" (407).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(402) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص503.

(403) ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص315.

(404) المرجع السابق، ص338.

(405) أورده الدكتور القس إبراهيم سعيد - شرح بشارة لوقا، ص510.

(406) يوميات مع كلمة اللَّه - إنجيل لوقا ص431-433.

(407) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا ص298.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/619.html

تقصير الرابط:
tak.la/q5c8grq