St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

91- ما هيَ الأدلة على فساد بدعة "يسوع التاريخ ومسيح الإيمان؟"

 

س91 : ما هيَ الأدلة على فساد بدعة "يسوع التاريخ ومسيح الإيمان؟"

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: 1ــ لم يكتب السيد المسيح إنجيلًا، ولم يوصي تلاميذه بكتابة إنجيل، إنما جاءت كرازته وكرازتهم شفاهةً، فقد خاطب السيد المسيح الجموع بأقوال وحِكم وأمثال قصيرة من واقع الحياة، بمفردات جديدة من السهل جدًا استيعابها واستظهارها، وقد استقرت في القلوب والوجدان، كما أن رب المجد كان يكرّر بعض الأقوال في مناسبات وأماكن مختلفة، وكان يشرح للتلاميذ الأمثال التي يخاطب بها الشعب، أما هؤلاء النُقَّاد مثل "بولتمان" فقد أستبعد أن يكون يسوع الناصري هو الذي نطق بكل ما جاء في الأناجيل من أقوال نسبت إليه وظن أنها وليدة خيال التلاميذ، وبهذا تغافل دور الوحي الإلهي في كتابة الأناجيل المقدَّسة بحسب وعد مُخلّصنا الصَّالح لتلاميذه الأطهار: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ" (يو 14 : 26).

 

2ــ قول "بولتمان" أنه يستحيل الوصول إلى صورة يسوع الناصري كما عاش على أرضنا هذا قول غير صحيح، لأن الصورة التي رسمتها الأناجيل الأربعة للسيد المسيح هو صورته الحقيقية التي عاش بها على الأرض، والأقوال التي صرَّحت الأناجيل بأن السيد المسيح نطق بها هيَ بالحقيقة أقواله، لأنه من المستحيل أن التلاميذ، وهم من أفاضل الناس وقد تتلمذوا على يد معلم الفضيلة الأول، أن يزوّروا أو يغيّروا في تاريخ يسوع، ومن المستحيل أن يختلقوا شخصية مسيح الإيمان، بل أن "رودلف بولتمان" نفسه سبق وقال سنة 1934م: " أننا نعرف الآن كل شيء عن حياة وشخصية يسوع. بينما عدد آخر لا بأس به من العلماء يشكُّون في هذه المقولة ويعتقدون أن ما في الأناجيل هو انعكاس لحياة الكنيسة الأولى مصورة في قوالب رواية يسوع.

إن طريقة معرفتنا ليسوع تختلف بوضوح عن معرفتنا لبولس: فهو قد كتب رسائل ويمكن مطابقتها ومقارنتها للروايات الواردة عنه في سفر الأعمال، لكتابة قصة حياته وتعاليمه في قالب متماسك. أما يسوع فلم يكتب شيئًا بل أمضى حياته متجوّلًا في أطراف الإمبراطورية بين أناس لم يلقوا للكتابة بالًا" (697).

 

3ـــ كان التلاميذ والرسل يهودًا حتى النخاع، يتمسكون بعقيدة وحدانية الله أكثر من تشبثهم بالحياة، ورغم تفاخرهم الشديد بإبراهيم أبيهم فأنهم لم يفكروا قط في تأليهه، ورغم محبتهم لموسى واعترافهم بالمعجزات الجبارة التي أجراها الله على يديه، لم يفكروا قط أيضًا في تأليهه، ويقول "الأرشمندريت يوسف درة الحداد": " مسيح الإيمـان أم يسـوع التاريخ"؟ لا وجود لمسيح الإيمان بدون مسيح التاريخ، وتعليم يسوع التاريخ عن سر ذاته وسر الله لا يمكن خلقه من يهود، في بيئة يهودية. ينسى المشككون أن اليهود في زمن المسيح أمة موحّدة (أي تعترف بالله الواحد)، على أخلص وأصلب ما يكون التوحيد. وقد ماتوا في موطنهم ومهاجرهم شهادة لتوحيدهم، فلا يمكن أن تثبت في ضميرهم فكرة تأليه مخلوق أو ألوهية بشر، مهما كانوا أميين أو مثقفين بثقافة اليونان والرومان، أمثال بولس ولوقا ومتى، وها هم يشهدون، هم الموحدون الأوحدون، أن يسوع ابن مريــم هو أيضًا "ابن الله"، بتعبير شعبي يفهمه الجميع، أو أنه "كلمة الله" بتعبيـر كلامي يفهمـه المتعلمون. يشهدون، هم شهود العيان، ويموتون في سبيل شهادتهم. وفي تلك الشهادة مشكلة المشاكل... فقد شهدوا واستشهدوا قائلين: "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ الَّذِي سَمِعْنَاهُ الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَــإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ.." (1يو 1 : 1 - 4)"(698).

كما يقول "الأرشمندريت يوسف دره الحداد" أيضًا: " ليس الإنجيل... وليد الوهم الجماعي، فقد كان الرسل في مطلع دعوتهم للمسيح والإنجيل، كما في ختامها، واقعيّين أكثر مما يتوهم الواهمون. فمسيح القيامة هو "يسوع الناصــري المصلوب" (أع 2 : 36)، والذين يشهدون أن يسوع الناصري المصلوب هو "المسيح الرب" (أع 2 : 36) كانوا من اليهود الموحّدين على أخلص وأصلب ما يكون التوحيد، فما كانوا ليرفعوا يسوع الناصري إلى الربوبية والألوهية، لو لم يكن بأحواله وأعماله وأقواله قد أنزل اليقين في نفوسهم، فشهدوا بما شهدوا، واستشهدوا لما شهدوا. فلم يكن الوهم الجماعي مصدر إيمانهم ودعوتهم وما رووه في الإنجيل بنصوصه الأربعة"(699).

 

St-Takla.org Image: Christ Pantocrator, art by Samy Hennes - St. Mary & St. Joseph Coptic Orthodox Church, Smouha, Alexandria, Egypt - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, December 6, 2019. صورة في موقع الأنبا تكلا: المسيح الضابط الكل، رسم الفنان سامي حنس - من صور كنيسة العذراء مريم والقديس يوسف، سموحة، الإسكندرية، مصر - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 6 ديسمبر 2019 م.

St-Takla.org Image: Christ Pantocrator, art by Samy Hennes - St. Mary & St. Joseph Coptic Orthodox Church, Smouha, Alexandria, Egypt - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, December 6, 2019.

صورة في موقع الأنبا تكلا: المسيح الضابط الكل، رسم الفنان سامي حنس - من صور كنيسة العذراء مريم والقديس يوسف، سموحة، الإسكندرية، مصر - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 6 ديسمبر 2019 م.

4ـــ لم تقبل الكنيسة سوى أربعة أناجيل فقط ورفضت عشرات الأناجيل أبوكريفا، وهذا يُظهر مدى تدقيق الكنيسة في التمسك بالحقيقية، ولا شيء غير الحقيقة، وجاءت الأناجيل الأربعة مطابقة تمامًا للإنجيل الشفهي الذي انتشر بقوة واستقر في قلوب المؤمنين ووجدان الكنيسة، وشهد لصحته الآلاف من شهود العيان الذين أبصروا يسوع المسيح وسمعوا أقواله وتعاليمه، كما أبصروه مُعلقًا على صليب الجلجثة، وإن كان بعد القيامة لم يظهر للجميع لكنه ظهر للكثيرين ممّن كتبت عنهم الأسفار ومن الذين لم تكتب عنهم، ولولا أن بولس الرسول أخبرنا بظهور السيد المسيح بعد القيامة لأكثر من خمسمائة أخ ما كنا علمنا عن هذا شيئًا. إذًا الأناجيل الأربعة موثوق بتاريخيها تمامًا، وكل إنجيل منهم قُبِل بجملته لم تحذف منه الكنيسة عبارة واحدة ولم تضف إليه شيئًا على الإطلاق، ونحن نثق تمام الثقة في كل ما كُتب في الأناجيل: " لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بط 1 : 21)، فالروح القدس كان شريكًا مع الكاتب يرشده وينير ذهنه ويعصمه من الخطأ، وجميع ما نُسب للسيد المسيح من أقوال هو فعلًا تفوَّه بها، بدليل انسجام هذه الأقوال معًا، وانسجامها مع ما جاء عنه في العهد القديم، ومن الطبيعي أن هذه الأقوال تفوَّه بها الرب يسوع بالآرامية، بينما سُجلت باليونانية.

 

5ــ قدَّمت الأناجيل لنا صورتين للسيد المسيح، الأولى: ولادته في مذود، ونشأته في بيت فقير، عاش حياته بلا وظيفة ولا بيت يستقر فيه، يعاني من احتقار وازدراء أهل وطنه في الناصرة، والقيادات الدينية في أورشليم، حُكم عليه ظلمًا وعُلّق عريانًا مصلوبًا على خشبة الذل والعار، والصورة الثانية: هيَ صورة يسوع الممجد في قيامته إذ سحق الشيطان والموت والخطية، بعد أن صنع بالضعف ما هو أعظم من القوة، فجرد الرئاسات والسلاطين وقوات الشر الروحية وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وليس معنى هذا أنه انقسم إلى شخصين، فقال بطرس الرسول في عظته الأولى: " إِلهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلهَ آبَائِنَا مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ... وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذلِكَ" (أع 3 : 13، 15)، كمــا قـال بطرس الرسول أيضًا: " فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. بِذَاكَ وَقَــفَ هذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحًا" (أع 4 : 10). لقد أكدت جميع الأسفار المقدَّسة أن يسوع هو المسيح، والمسيح هو يسوع، ولذلك دمجوا بين الاسمين، فدعوه "يسوع المسيح" أو "المسيح يسوع". 

ويقول "الخوري بولس الفغالي": " لا هوة بين يسوع التاريخ ومسيح الإيمان، فهذا القائم من الموت والممجَّد يحمل آثار جراحه (لو 24 : 40). ليس روحًا حسب، وليس من عالم الخيال... أجل، يسوع هو المسيح ولم يتبدَّل. أما الذي تبدَّل فهو نظرة التلاميذ، رفعهم إليه فرأوا من خلال ذله المجد الذي يتمتع به الآن، واكتشفوا أبعاد حياته في ضوء قيامته، هذا الذي جاع وتعب ونام هو الذي شفى المرضى وغفـر الخطايا وأقام الموتى، بل قام هو بنفسه بمجد عظيم"(700).

 

6ـــ لا يمكن أن نتجاهل شهادة بولس الرسول الذي كان يهوديًا متطرفًا مفرطًا في اضطهاد المسيحيين، وبعد أن ظهر له رب المجد بنور عظيم على أبواب دمشق فسقط واقتيد للمدينة وهو لا يبصر، وإذ به ينقلب إلى النقيض، وشهد بقوة وجبروت لشخصية يسوع المسيح، بدون أي شبهة في الفصل بين يسوع التاريخ ومسيح الإيمان، وهذا موضوع أتركه للقارئ لأنه يطول شرحه.

 

7ـــ حُوكِم يسوع وحَكَم عليه مجمع السنهدريم كمضل لأنه أصرَّ على قوله أنه ابن الله، وعندما عُلق على الصليب وقَبل أن يُنزَل شهد له قائد المئة قائلًا أنه كان بالحقيقية ابن الله، وبعد قيامته شهد له تلاميذه شهادة الدم بأنه بالحقيقة ابن الله القائم من الأموات، وتحدوا القيادات الدينية الآثمة التي حكمت عليه بالموت، ويقــول "الأب بولس إلياس اليسوعي": " فتلاميذ يسوع المسيح وأتباعه كانوا أمام أخطر وأعظم دعوى عرفها التاريخ. دعوى المجلس الديني اليهودي الأعلى على يسوع الناصري بأنه ليس المسيح ابن الله الحي وأنه كاذب ومضل ودجال وقد حكموا عليه بالموت صلبًا عقابًا لتدجيله، وزعموا أنهم قضوا عليه قضاءً مؤبدًا، فشهادة أولئك التلاميذ تقوم بتكذيب ذلك المجلس الديني الأعلى (السنهدريم) والسلطات الحكومية الرومانية واليهودية التي نفذت الحكم عليه، والمناداة بأنه قام من الأموات في اليوم الثالث بعد صلبه وموته ودفنه بقوته الإلهيَّة، وأنه حي، جالس عن يمين الآب في السماء وقد سحق الشيطان وحرَّر البشرية من آثامها ووطد إلى الأبد كنيسته... ولهذا تراهم يبدأون هم أنفسهم أولًا بفتح دعواه من جديد أمام الشعب في ساحات المدينة وباحات الهيكل وأروقته وسرد حوادثها من بدايتها إلى نهايتها دون خوف أو وجل. وشهادتهم لا تقتصر على المناداة به حيًا وقائمًا من الموت مظفرًا وحسب، بل أنه يحيا في الكنيسة وفي كل منهم، يمنحهم نورًا من نوره وقداسة من قداسته لتنوير البشر وإصلاح أخلاقهم ولمتابعة رسالته"(701).

 

8ـــ محاولة تقسيم شخصية يسوع المسيح إلى "يسوع التاريخ" و "مسيح الإيمان" يشوّه كلا الصورتين، ويقول "الخوري بولس الفغالي": " يسوع التاريخ ومسيح الإيمان": هذا هو التمييز الذي أُطلق في أوروبا خصوصًا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. يسوع التاريخ هو الذي تعرَّف إليه الناس، رأوه بعيونهم، سمعوه بأذانهم، لمسوه بأيديهم. والمسيح هو وجه الله الذي يتجلى بصورة خاصة في القيامة وعلى ضوء القيامة. ولكن كيف نفصل بين الأثنين دون أن نمزق وجه الرب الواحد؟!"(702).

ويقول "ماك جينلي": "أن بولتمان عندما أستبعد الإطار التاريخي قد ترك وراءه نصًا مشوهًا لا يفيد المسيحيين الأوائل ولا المحدثين"(703).

ويقول "دافيد كارنز": "إن كل المبررات التي ساقها بولتمان، لدعم تحوُّله عن التاريخ غير مقنعة، إذ أن المشروع بأكمله يشبه تمامًا اللجوء إلى قطع رأس شخص كعلاج له من الصداع"(704).

كما يقول "الخوري بولس الفغالي" أيضًا: "هنا نحس أننا على المفصل بين يسوع التاريخ ومسيح الإيمان. فالفصل بين الاثنين شبه مستحيل. ومن أراد أن يحتفظ بوجهة ويترك الأخرى، يضيّع الوجهتين، كما يضيّع الإنجيل ككل، هذا ما قيل لبولتمان الذي أراد أن يفصل الصورة الملموسة عن الفكرة اللاهوتية: إذا حسبنا أننا نستطيع أن نرمي الماء المحيط بالطفل في الطشت، نرمي الماء ونرمي معه الطفل، فلا يبقى لنا شيئًا... فأين موقع التاريخ، وأين موقع الإيمان؟ إذا ألغينا الصفة التاريخية عن العهد الجديد بشكل خاص وعن الكتاب المقدَّس بشكل عام، لا يعود من معنى لكلام الله الذي لا يتجسد في الزمان والمكان"(705).

 

9ـــ الذين ذهبوا يبحثون عن "يسوع التاريخ" وهم في داخلهم يشتهون تجريد يسوع المسيح من ألوهيته، ويهبطون به إلى المستوى البشري لا غير، تصوَّروه تارة قاسيًا عنيفًا يمسك السوط ويضرب الناس، وتارة عاشقًا، وتارة متزوجًا، وسخَّروا الميديا لنشر أفكارهم المسمَّمة هذه كما هو واضح من الأفلام التي ينتجونها مثل فيلم "الإغراء الأخير للمسيح" وغيره، وتغافلوا أن المعيار الوحيد لتحديد شخصية يسوع المسيح هو ما جـاء عنه في الأناجيل، واللوحة التي رسمتها الأناجيل له في منتهى الروعة والإبداع لا يماثلها أي تصوير سينمائي، ويقول "الخوري بولس الفغالي": " نشكر هؤلاء الذين يعودون بنا إلى أريوس الذي مات في القرن الرابع فيجعلون يسوع في الغيوم، وينسون لاهوته من أجل كلام عن ناسوته، فيجعلون عليه العنف لأنهم من أهل العنف. هكذا ينزل يسوع إلى مستواهم ولا يرتفعون هم إلى مستواه. ويجعلونه عاشقًا متزوجًا، لأن مفهوم الجنس والعلاقة بين رجل وامرأة، في الزواج أو خارج الزواج، سيطر على كل مفهوم آخر. مع هؤلاء نستعد لأن نعيش في ملكوت إلهي يكون أكلًا وشربًا، يتزوج فيه الناس ويزوجون، لأن الخيال سيطر على الواقع الإنجيلي، ولأن كلام البشر سيطر على كلام الله. وهكذا بعد أن نقتل "الله" نستعد لأن نقتل الإنسان، ونضحي بالضعفاء والمرضى والعُجَّز من أجل بناء حضارة تركت وراءها ستين مليون قتيل خلال الحرب العالمية الثانية. كلاَّ ثم كلاَّ. لهذا انطلقت دراستنا من "التاريخ" لكي نتعرَّف على يسوع الذي عاش في مكان محدد في فلسطين وفي زمان محدد، ووصلت إلى مسيح الإيمان"(706).

 

10ـــ يسوع التاريخ هو هو مسيح الإيمان، هذا هو إيمان ملايين المسيحيين في شتى أنحاء المعمورة، ومن يشت عن هذا الإيمان لا يُحسب في تعداد المسيحيين، لأن شرط أن يكون الإنسان مسيحيًا هو أن يعترف بالسيد المسيح، أقنوم الكلمة المتجسد من أجل خلاصنا، لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين، فإيمان المسيحيين في مشارق الأرض ومغاربها خير شاهد على ضلال بدعة "يسوع التاريخ ومسيح الإيمان"، ويقول "الأب بولس إلياس اليسوعي": " فالمسيح حي في أعضائه على اختلاف الأجناس والألوان والمشارب. تراه في عيني هذا الطفل تشعان صفاءً ونورًا عندما يضم يديه للصلاة، وتستشفه في قسمات هذا الشاب يكافح كفاح الأبطال للثبات على القمم، ولمجانبة الانزلاق في مهاوي المنكرات، وتتبينه في وجه هذه الفتاة يشرق نقاءً ويشع طهرًا ملائكيًا، وتتحسسه في تفاني هذه الراهبة تنذر نفسها وراحتها وكل ما أوتيته من قوى في سبيل التخفيف عن بؤس البائسين وآلام المتألمين، وتكاد تلمسه في عزيمة رب العائلة على العراك المستميت في سبيل إعالة أفراد عائلته يطعمهم ثمار عرق الجبين ودم القلب، وتتمثله في جَلد أم البنين تنفق زهرة العمر في تنشئة رجال الغد، وفي هذا العامل يكب على عمله إكباب فتى الناصرة عليه من إيمان وعناد، وفي ذاك المريض يجرع عصص الأوجاع على مثال معلمه الذي عُلّق على الصليب. هو المسيح حي في جميع أعضائه خالد في مؤمنيه خلود الناس على الأرض وفي السماء.

فالمسيح إذًا ليس مؤسس ديانة شأنه شأن غيره من مؤسسي الأديان، وليس هو شخصًا تاريخيًا فحسب عاش في فترة من الزمن محدودة ثم توارى عن الأبصار والأذهان بعد أن ترك وراءه تعاليم جافة وشرائع جامدة. بل هو شخص حي خالد يقيم في قرارة كلٍ من أتباعه" (707).

ويقول الفيلسوف الفرنسي "جان غينون": "لو تصفحنا التاريخ منذ عشرين قرنًا لوجدنا المسيح في قرارة ضمائر الألوف من البشر في كل عصر وفي كل جيل. أنك لتحس وجوده في تفكيرهم ووجدانهم، يستفزهم إلى الخير وإلى المُثل العليا، ويستنفر فيهم أسمى وأجمل رغائب ووثبات إلى الخير والصلاح، هو عقلهم المُفكر وعينهم المبصرة، هؤلاء ندعوهم القديسين. والحق يُقال أننا ما رأينا قط شخصًا آخر غير المسيح استنفر وجنَّد مثل هؤلاء القديسين للاقتداء به وتحقيق تعاليمه ورغباته... ليس من الغرابة بشيء أن نرى... من القديسين أُناسًا عاديين وفي الوقت ذاته أناسًا روحانيين يفوقون البشر. أما الصلة التي تشد القديس إلى يسوع المسيح فمباشرة، ذلك لأن القديسين لا يلدون القديسين ولا يصنعونهم - القديس لا يأتي عن طريق الولادة - إنما صانع القديسين واحد وهو المسيح"(708).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

 (697) أورده جون درين - مدخل العهد الجديد ص 208، 209.

 (698) مصادر الوحي الإلهي - الدفاع عن المسيحية - في الإنجيل بحسب متى ص 96، 97 .

(699) المرجع السابق ص 105.

(700) الأناجيل الإزائية متى - مرقس - لوقا ص 336.

 (701) يسوع المسيح - شخصيته - تعاليمه ص 172.

(702) الأناجيل الإيزائية متى - مرقس - لوقا ص 335.

(703) أورده جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 486 .

(704) المرجع السابق ص 486.

(705) يسوع التاريخي - محاضرات ومقالات نسّقها وقدّم لها الأب أيوب شهوان ص 394، 395.

 (706) يسوع التاريخي - محاضرات ومقالات نسّقها وقدَّم لها الأب أيوب شهوان ص 411.

(707) يسوع المسيح - شخصيته - تعاليمه ص 155.

(708) أورده الأب بولس إلياس اليسوعي - يسوع المسيح - شخصيته - تعاليمه ص 187، 188.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/91.html

تقصير الرابط:
tak.la/mkf568r